بحوث اسلامية بحوث دينية

“العفو” كلمه قرانية، و ردت فكتاب الله تعالي مرتين، احداهما فقولة تعالى: ((ويسالونك ما ذا ينفقون قل العفو )) [البقرة:219]. و ثانيتهما فقولة تعالى: ((خذ العفو و امر بالعرف و اعرض عن الجاهلين )) [الاعراف:199].

ولقد حرر المفسرون – رحمهم الله – مفهوم “العفو” الوارد فهاتين الايتين، فقال الفخر الرازى فتفسير الايه الاولى: “ويسالونك ما ذا ينفقون قل العفو ” قال: اعلم ان ذلك السؤال ربما تقدم ذكرة فاجيب عنة بذكر المصرف (8) . و اعيد هنا فاجيب عنة بذكر الكمية. . اذا عرفت ذلك فنقول: كان الناس لما راوا الله و رسولة يحضان علي الانفاق، و يدلان علي عظيم ثوابه، سالوا عن مقدار ما كلفوا به، هل هو جميع المال او بعضه؟ فاعلمهم الله ان “العفو” مقبول.

ولكن ما هو العفو؟ يجيب الفخر الرازي: قال الواحدى رحمة الله: اصل العفو فاللغه الزياده ، قال تعالى: ((خذ العفو )) [الاعراف:199] اي الزيادة، و قال ايضا: ((حتي عفوا )) [الاعراف:95] اي زادوا علي ما كانوا علية فالعدد، قال القفال: “العفو” ما سهل، و تيسر، مما يصبح فاضلا عن الكفاية. . . . و اذا كان “العفو” هو التيسير، فالغالب انما يصبح فيما يفضل عن اشياء الانسان فنفسة و عياله، و من تلزمة مؤنتهم، فقول من قال: “العفو” هو الزياده راجع الي التفسير الذي ذكرنا (9) .

وقال رحمة الله فتفسير ايه سوره الاعراف “خذ العفو. .” بين فهذة الاية: ما هو المنهج القويم، و الصراط المستقيم فمعامله الناس، فقال: خذ العفو و امر بالعرف، قال اهل اللغة: العفو، الفضل و ما اتي من غير كلفة. اذا عرفت ذلك فنقول: الحقوق التي تستوفي من الناس و تؤخذ منهم، اما ان يجوز ادخال المساهله و المسامحه فيها، و اما ان لا يجوز. اما القسم الاول فهو المراد بقوله: “خذ العفو”، و يدخل فية ترك التشدد فكل ما يتعلق بالحقوق المالية، و يدخل فية كذلك التخلق مع الناس بالخلق الطيب، و ترك الغلظه و الفظاظة. . اما القسم الثاني، و هو الذي لا يجوز دخول المساهله و المسامحه فيه، فالحكم فية ان يامر بالعرف. . و للمفسرين طريق احدث فتفسير هذة الايه فقالوا: “خذ العفو”، اي : ما عفا لك من اموالهم، اي ما اتوك بة عفوا فخذه، و لا تسال عما و راء ذلك. . بعدها قال: اعلم ان تخصيص قوله: “خذ العفو” بما ذكر، تقييد للمطلق من غير دليل” (10) .

ونستخلص من كلام الرازى رحمة الله تعالى، ان “العفو” مقدار من الامكانيات، و كميه منها، و انه بيان لما كلف الله عبادة انفاقة فسبيل الله من امكانياتهم، بعد ان تساءلوا: طعام المال يجب عليهم انفاقة ام بعضه؟ و ان “العفو” الوارد فايه سوره البقرة: ((ويسالونك ما ذا ينفقون قل العفو ))، هو الخاص بهذا التكليف، اما “العفو” الوارد فايه سوره الاعراف: “خذ العفو”، فيشمل المال، و غير المال كالاخلاق.

ولقد دار المفسرون حول ذلك المعني فتفسيرهم للعفو، فقال القرطبي: العفو ما سهل، و تيسر، و فضل، و لم يشق علي القلب اخراجه. فالمعني انفقوا ما فضل عن حوائجكم، و لم تؤذوا فية انفسكم، فتكونوا عالة. ذلك اول ما قيل فتفسير الاية، و هو قول الحسن، و قتادة، و عطاء، و السدي، و القرظى محمد بن كعب، و ابن ابى ليلي و غيرهم، قالوا: العفو: ما فضل عن العيال، و نحوه، عن ابن عباس (11) .

وقال الشوكاني: و العفو ما سهل، و تيسر، و لم يشق علي القلب، و المعنى: انفقوا ما فضل عن حوائجكم، و لم تجهدوا فية انفسكم، و قيل: هو ما فضل عن نفقه العيال (12) .

وقال الطاهر بن عاشور: “العفو مصدر عفا يعفو، اذا زاد و نما، و هو هنا ما زاد علي حاجه المرء من المال، اي ما فضل بعد نفقته، و نفقه عيالة بمعتاد امثالة (13) .

وجاء فتفسير “المنار”: و ما و رد يدل علي ان المراد: اي جزء من اموالهم ينفقون، و اي جزء منها يمسكون، ليكونوا ممتثلين لقولة تعالى: ((وانفقوا فسبيل الله )) [البقرة:195]، و متحققين بقولة تعالى: ((ومما رزقناهم ينفقون )) [البقرة:3]، و ما فمعني هذا من الايات التي تنطق بان الانفاق فسبيل الله، من ايات الايمان و شعبة اللازمه له علي الاطلاق، الذي يشعر ان علي المؤمن ان ينفق جميع ما يملك فسبيل الله، و ربما اقتضت الحكمه بهذا الاطلاق فاول الاسلام. . . . و بعد استقرار الاسلام، توجهت النفوس الي تقييد تلك الاطلاقات فالانفاق فسالوا: ما ذا ينفقون؟ فاجيبوا بان ينفقوا “العفو”، و هو الفضل و الزياده عن الحاجة. و علية الاكثر، و قال بعضهم؛ ان العفو نقيض الجهد، اي: ينفقوا ما سهل عليهم، و تيسر لهم، مما يصبح فاضلا عن حاجتهم و حاجه من يعولون (14) .

وقال ابن عطية: العفو هو ما ينفقة المرء دون ان يجهد نفسة و ما له، و نحو ذلك هى عباره المفسرين، و هو ما خوذ من عفا الشيء اذا كثر، فالمعني انفقوا ما فضل عن حوائجكم، و لم تؤذوا فية انفسكم، فتكونوا عاله (15) .

وقال صاحب الظلال: العفو الفضل و الزيادة، فكل ما زاد علي النفقه الشخصيه – فغير سرف و لا مخيله – فهو محل للانفاق (16) .

وهكذا نري ان المفسرين – قديمهم و حديثهم – يتفقون فالجمله علي ان المقصود من “العفو” الوارد فقولة تعالى: “يسالونك ما ذا ينفقون قل: العفو “، هو الفضل و الزياده عن الحاجات، و انه كلة محل للانفاق.

واذا انتقلنا من القران الكريم الي السنه المطهرة، و جدنا لفظ “الفضل”، الذي فسر بة “العفو” الوارد فالقران الكريم، ربما استعمل فبيان ما ينبغى علي المسلم، ان يعود بة علي غيره، من الامكانيات التي لديه، و هذا فالعديد من الاحاديث الصحيحة، و التي منها قول النبى صلوات الله و سلامة عليه: “يا ابن ادم انك ان تبذل الفضل خير لك، و ان تمسكة شر لك، و لا تلام علي كفاف، و ابدا بمن تعول، و اليد العليا خير من اليد السفلي ” (17) . و منها ما رواة ابو سعيد الخدرى – رضى الله تعالي عنة – قال: بينما نحن فسفر مع النبى صلي الله علية و سلم اذ جاء رجل علي راحله له، قال: فجعل يصرف بصرة يمينا و شمالا، فقال رسول الله صلي الله علية و سلم : “من كان معة فضل ظهر، فليعد بة علي من لا ظهر له، و من كان له فضل من زاد، فليعد بة علي من لا زاد له”. فذكر من اصناف المال ما ذكر، حتي راينا انه لا حق لاحد منا ففضل (18) .

فالفضل الوارد فالاحاديث السابقة، هو “العفو” الوارد فالكتاب الكريم، و هو محل للانفاق، حتي ليقول الصحابى الجليل: “راينا انه لا حق لاحد منا ففضل “، و تكون السنه المشرفه ربما فسرت “العفو” الوارد فالقران الكريم. . فالعفو هو ما زاد عن الحاجة. . و الفضل هو ما زاد عن الحاجة. . و لقد كان حريا بالمفسرين رحمهم الله تعالى، ان يستانسوا بالسنه المشرفه فتحديد معني “العفو”، فقد بينت انه الفضل، عندما استعملت ذلك اللفظ فنفس الموضع الذي استعمل فية “العفو” فالقران الكريم. فهذا هو اصح الطرق، لكنهم اعتمدوا علي الدلاله اللغويه للكلمة، و علي ما و رد عن بعض الصحابه و بعض التابعين فتفسير معني “العفو”، و نقل هذا بعضهم عن بعض، دون اشاره الي الاحاديث التي و ردت فنفس المجال، و استعملت لفظ “الفضل”.

ولعل و ضوح الدلاله لكلمه “العفو”، عندما تكون اجابه للسؤال عن كميه و مقدار ما ينبغى ان يقوم الفرد بانفاقه، لم تجعل المفسرين فحاجه الي ذلك الاستئناس، و ان كان ذلك التبرير ليس كافيا، هذا ان السنه هى خير ما يفسر القران، بعد القران. و هى ربما فسرت “العفو”بالفضل، فكان ينبغى ان يؤخذ مفهوم “العفو” من السنه اولا، بعدها من اقوال الصحابه و التابعين ثانيا، و هم فالحقيقه انما استقوا تفسيراتهم من السنة، و ان لم يصرحوا بالنسبه اليها.

وبهذا يتضح لنا مفهوم ((العفو)) فالفكر الاسلامي. و اذا كان حديثنا ربما ركز علي “العفو” من المال، فعند التحقيق نجد “العفو” غير مقصور عليه، فالايه لم تقيد “العفو” بالفائض من المال، و ان كان المفسرون ربما و قفوا “بالعفو” عند الفائض منه، و حتي ان قلنا: ان ايه “العفو” من سوره البقرة، ربما جاءت فانفاق المال – و نحن لا نري هذا – فان السنه المطهره ربما و ردت بالتكليف بانفاق “العفو” من الجهد و الامكانيات البشرية، و التي سنتحدث عنها حديثا مستقلا، بمشيئه الله تعالي فيما بعد.

ولو لم تكن السنه ربما جاءت بتقرير ذلك النوع من “العفو” – كما سنعرف – و سلمنا بان الايه من سوره البقرة، ربما و ردت ف“العفو” من المال، لكان “العفو” من الجهد البشرى مقررا فالاسلام، قياسا علي “العفو” فالمال، اذ ان عله تقرير انفاق “العفو” من المال هى و جودة فائضا عن حاجه الشخص، فاذا و جد فائض من الجهد البشرى لدي شخص، فان حكم الفائض من المال ينسحب عليه، لكن السنه – بحمد الله تعالي – ربما اغنت عن القياس طريقا لاثبات التكليف بانفاق “العفو” من الجهد البشري. جميع ذلك بافتراض ان الايه خاصه ب “العفو” المالي، مع اننى لا اري ذلك، و انما اراها مطلقه تنطبق علي العفو المالي، كما تنطبق علي العفو من الجهد البشري.

وبناء علي ذلك النقاش، فان التكليف بانفاق “العفو” و ارد علي جميع من المال و الجهد البشري، بل اننى اري ان دور “العفو” من الجهد البشرى فبناء المجتمع، و تمويل تنميته، اكبر من دور “العفو” فالمال، و بخاصه فالمجتمعات التي تمتلك قردا كبيرا من العمل، و لا تملك من المال الا القليل، و اكثر مناطق العالم الاسلامى اليوم هى من ذلك الصنف، الذي بة عرض كبير من العمل، بينما يعانى من عجز مواردة المالية. ان تمويل التنميه فمثل هذة البلاد، ممكن تحقيقة بصوره ايسر اذا هى ركزت علي “العفو” من الجهد البشرى – الذي يملكة معظم الناس فالمجتمع – بعدها عضدتة ب “لعفو” من المال (19) . و سنري فالمطلب الاتي، ان مفهوم انفاق العفو، يشمل تقديمة بمقابل ما دي، الي جانب تقديمة بدون ذلك المقابل، و ان الهدف هو جعل “العفو” ايا كان مصدره، منفقا فتحقيق المصالح.

العفو و الفائض الاقتصادي:

اذا كنا ربما تبينا ان “العفو” هو “الفضل”، فهل يفترق “العفو” عن الفائض الاقتصادي، كما تتحدث عنة الكتابات الانمائيه المعاصرة؟

لا شك ان الفائض الاقتصادى – كما تعرفة الكتابات الانمائيه المعاصره – و بصرف النظر عن تقسيمة الي فائض محتمل، او مخطط، او فعلي، انما يعنى ما يتبقي من الدخل، بعد سد الحاجات، و هو بهذا المعني الاجمالى يتفق من حيث تكوينة المادي، مع “العفو” من المال. و تبقي فكره “العفو” ذات شمول لا يوجد فمفهوم الفائض الاقتصادي، لانها تشمل الي جوار الفائض الاقتصادي، اي “الفائض من الدخل عن الحاجات”، تشمل الفائض من الجهد البشري، و الذي قلنا – من قبل – : اننا نراة اكثر اهميه من الفائض فالمال، لدي معظم مجتمعاتنا الاسلامية، و غيرها من مجتمعات العالم، التي تسعي الي تحقيق التقدم و التغلب علي مسببات التخلف. . و اختلاف مفهوم “العفو” عن مفهوم الفائض الاقتصادى بهذا القدر، يجعل اداره العفو و توجيهه، تختلف عن اداره و توجية الفائض الاقتصادي، و من بعدها فان النظريات الاقتصاديه عن توجية الفائض الاقتصادي، ذات فوائد محدوده لنا عند و ضع السياسات الخاصه باستعمال “العفو” فتمويل التنميه و تحقيق التقدم.



 

  • بحوث اسلامية مكتوبة
  • بحوث دينية
  • بحوث اسلامية
  • بحوث دنية
  • بحوث دينيه


بحوث اسلامية بحوث دينية